إبراهيم شقلاوي يكتب سلام السودان وعجز النخب والرباعية المنبتّة..!

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي يكتب
سلام السودان وعجز النخب والرباعية المنبتّة..
منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع، انفتح المشهد السياسي الداخلي والإقليمي والدولي على تعقيدات متشابكة؛ تتراوح بين غموض الأدوار، وتآكل العمق الوطني، وافتقار الجهود السياسية إلى مرجعية جامعة يمكن الاحتكام إليها.
في قلب هذه الفوضى، تُعاد صياغة مفاهيم رخوة للسلام، وتُطرح مبادرات تفتقر إلى العمق والتوازن، فيما يُطلب من السودانيين تقديم تنازلات وجودية دون أن يُمنحوا حتى حق تحديد معايير الحل، أو تعريف من هو المعتدي ومن هو الضحية. هذه التداخلات تكشف بوضوح عن عجز النخب السياسية السودانية في اجتراح حلول حقيقية لأزمة البلاد .
في هذا السياق، برزت الرباعية الدولية – المكوّنة من الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات، ومصر مؤخرًا – كأحد أبرز مظاهر الارتباك الدولي تجاه السودان. فقد ظهرت هذه الصيغة عقب سقوط نظام عمر البشير عام 2019، دون مرجعية قانونية واضحة؛ لا من الأمم المتحدة، ولا من الاتحاد الإفريقي أو الإيقاد.
إنها مجموعة ضغط سياسية أقرب إلى تحالف ظرفي تشكّل استجابةً لمصالح مشتركة بين هذه الدول. ولذلك فهي تفتقر إلى مقومات الوساطة النزيهة أو الدور الفاعل في حل الأزمة السودانية.
البيان الأخير للرباعية الصادر في 12 سبتمبر 2024، جاء منحازًا بوضوح حين طالب بـ«منع عودة الإسلاميين» واعتبرهم محرّكين رئيسيين للحرب، دون أن يذكر المسؤولية المباشرة للمليشيا التي أشعلت الحرب، ونهبت البنوك، وارتكبت المجازر، وهدمت مؤسسات الدولة.
هذا الانحياز الفج أعاد طرح سؤال جوهري: كيف لطرف متورط في دعم المليشيا – كما في حالة الإمارات – أن يُقدَّم كوسيط للسلام؟ وهل يمكن اعتبار الرباعية مظلة محايدة للحل السياسي في بلد تنهشه التدخلات الإقليمية والدولية؟
من الواضح أن البيان الأخير مثّل إعلانًا غير رسمي لإعادة هيكلة المشهد السوداني بعيدًا عن الإرادة الشعبية والسيادة الوطنية.
فالخطاب بدأ موجَّهًا نحو فرض تصور دولي مسبق لطبيعة الدولة السودانية ما بعد الحرب؛ وهو ذات النهج الذي اتبعته من قبل هذه الرباعية وكان أحد أسباب انزلاق البلاد في الحرب.
إذ أن هذا التصور ظل يُقصي الإسلاميين باعتبارهم «خطرًا أيديولوجيًا»، ويتغاضى عن المليشيات المسلحة التي ارتكبت انتهاكات موثقة لمجرد تبنّيها خطابًا «حداثيًا» زائفًا.
أما الرد الرسمي من حكومة السودان فجاء حازمًا وواضحًا، حين أكدت وزارة الخارجية أن السيادة الوطنية خط أحمر، وأن أي مبادرة دولية يجب أن تمر عبر مؤسسات الدولة. لم يكن ذلك دفاعًا عن تيار سياسي بعينه، بل عن مبدأ مؤسس: لا يمكن إنتاج سلام حقيقي من خلال وسطاء لا يعترفون بوجود الدولة نفسها أو يسعون لتشكيل مستقبلها بمعزل عن شعبها وجيشها ومؤسساتها الوطنية.
في المقابل رحّبت الحكومة الموازية المدعومة من مليشيا الدعم السريع ببيان الرباعية، وعدّته فرصة لإقصاء خصومها السياسيين، في انسجام تام مع الخطاب الدولي، سعيًا لانتزاع شرعية خارجية تعوّضها عن افتقارها لأي مشروعية داخلية. هذا الموقف كشف أن الحرب في السودان لم تعد مجرد صراع داخلي، بل تحوّلت إلى ساحة تجاذب إقليمي تُستخدم فيها المليشيات كأدوات لتحقيق مكاسب سياسية لصالح رعاة إقليميين.
وسط هذا التشظي تبدو النخب السياسية السودانية – من مختلف الاتجاهات – عاجزة عن إنتاج خطاب وطني جامع أو حتى الحد الأدنى من التنسيق. بعضهم انخرط في حوارات فارغة مثل «ورشة بروميدييشن» التي تُدار من خارج السياق الوطني، وتحاول هندسة اتفاقات مع أطراف مرفوضة شعبيًا، بينما الآخرون لا يزالون أسرى الحسابات الأيديولوجية القديمة والخطابات الصفرية.
النخب – كعادتها – تتخلف عن معركة الشعب، وتتقاطع مع أجندات الخارج، دون أن تقدم رؤية واضحة لإنهاء الحرب أو لبناء السلام الحقيقي.
الواقع الميداني اليوم يرسم معادلة أكثر وضوحًا: الجيش السوداني، رغم التحديات، صمد وتقدم وأعاد تموضعه في مساحات واسعة من غرب البلاد. وإذا استكمل عملياته العسكرية في كردفان ودارفور، فإن المليشيا ستفقد مبرر وجودها وتتحول إلى شتات بلا تأثير استراتيجي. غير أن أي تأخير في الحسم العسكري أو استدراج الجيش إلى مفاوضات غير متكافئة قبل استكمال أهدافه قد يقود إلى نتائج كارثية: أولها شرعنة المليشيا، وثانيها تقسيم السودان.
ومن المعلوم – بحسب #وجه_الحقيقة – أن السودانيين لا يرفضون التفاوض، فكل الحروب الكبرى تنتهي باتفاق، لكنهم يرفضون أن يكون التفاوض تحت ضغط الابتزاز الدولي. فالتفاوض لا يُجرى مع من يسلّح المليشيات ويموّلها قبل أن يعترف بمسؤوليته ويتوقف عن ذلك فورًا. الإمارات ليست وسيطًا، بل طرف أصيل في الحرب، والرباعية ما لم تُعد النظر في تكوينها ومواقفها ستظل جزءًا من الأزمة لا وسيلةً للحل.
أن الحل الحقيقي للأزمة السودانية لا يكمن في الاعتماد على الوساطات الخارجية التي تفرض أجندتها على حساب السيادة الوطنية، بل في قدرة النخب السودانية على إستعادة وعيها وتوحيد صفوفها وبناء رؤية وطنية موحدة تحافظ على استقلال القرار وتصون مستقبل السودان.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 7 أكتوبر 2025م
Shglawi55@gmail.com