الأخبارأخبار محلية

نبض المجتمع

طه هارون
طه هارون حامد…يكتب
أقول المدينة

في هذا الظرف المعقّد الذي يعيشه عالمنا العربي، تبدو الحاجة إلى إعادة تعريف الضرورة المحلة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. صارت السياسة اليوم أقرب إلى سوق للغة منحطّة، لا ترتقي إلى مسؤولية الكلمة ولا تُعبّر عن هموم ومشكلات الشعوب، بل تسير بخطى حثيثة خلف وهم المكاسب الشخصية، تاركة وراءها المبادئ، والمثل، والغاية التي من أجلها وُجدت السياسة في الأصل.
إننا لا نشهد فقط أزمة في الخطاب، بل انهيارًا في البنية الأخلاقية التي يُفترض أن يقوم عليها العمل العام. من المدهش أن تتحول القيم إلى “ترف” نخبوي، وأن يُنظر للمبادئ على أنها عبء ثقيل لا طائل منه، يُفضَّل تجاوزه من أجل “الواقعية السياسية”، وهي واقعية تختزل كل شيء في المصلحة الضيقة والفردية، المنطقة؛ ثم الولاية.
على حساب الجماعة والمصير المشترك.
لغة السياسة اليوم لم تعد لغة المدنية والرعايةالاجتماعية ذاك الفضاء الذي حلم به الفلاسفة، من أفلاطون إلى الفارابي، حين رأوا أن حكم الشعوب الفاضلة تقوم على العدالة والعقل والمشورة والمشاركة، لا على الكيد والخيانة وتصفية الحسابات. أين نحن اليوم من تلك الاحلام لقد أصبحت الدولة، في كثير من الحالات، تُدار كما تُدار الشركات الخاصة، حيث تُوزَّع المناصب كما تُوزَّع الغنائم، ويُستبعد منها الكفء لصالح التابع، ويُقرب الفاسد لأنه يحفظ “أسرار العائلة” او التنظيم السري
وهكذا تغدو الضرورة المحلة الي ادارة رشيدة تبرر عدم السكوت على هذا الانحدار — أخطر من المشكلة نفسها، لأنها تعني القبول بالصمت والتطبيع مع الرداءة. فالمواطن، الذي يُفترض أن يكون شريكًا في الشأن العام، أصبح مجرد متفرج يُطلب منه الهتاف و التصفيق في وقت محدد، والصمت في كل الأوقات الأخرى. أما المثقف، فقد تحول في بعض الحالات إلى بوق دعاية، أو خادم لأجندات مغلقة، يتنازل عن دوره النقدي من أجل فتات المكاسب.
إن غياب دولة القانون ، بالمعنى الفلسفي، لا يعني فقط غياب الجغرافيا، بل غياب الفكرة. حين لا تعود الدولة مشروعًا مشتركًا، بل مؤسسة للنهب المنظم، تفقد قدرتها على احتضان الجميع، وتتحول إلى فريسة لصراعات لا تنتهي. وحين تختفي تخفي اثار دولة الرعاية الاجتماعية والمساواة، يختفي معها القانون، ويعلو صوت الزعيم على صوت العدالة، ويُستبدل الحوار السياسي بالسباب، والاختلاف بالتحريض، والمنافسة بالخيانة.
ما العمل إذن؟ لعل البداية تكون في استعادة السؤال القديم: لماذا وُجدت الدولة أصلًا؟ وهل نحن مستعدون للعيش معًا وفق قواعد عادلة، أم أننا نفضل البقاء في عوالم التهم والتخوين؟ لا يمكن أن تُبنى دولة من غير قانون ومؤسسات رسمية حقيقية ولا يمكن أن تقوم بلد من غير مواطن حر، يشعر أنه في بيته، لا في سجن مؤقت.
العودة إلى سلطة شعب ليست حنينًا إلى الماضي، بل اشتباك مع الحاضر. هي فعل مقاومة ضد القبح، وضد السوقية، وضد أولئك الذين يعتقدون أن السياسة لعبة بلا أخلاق. فلنعد إلى الحلم الأول، ونسعي الدلة الفاضلة التي تقوم على الرأي لا على السلاح، وعلى المشاركة لا على الولاء، وعلى العدالة لا على المحاباة.
وإلى أن نعود إليها، ستظل الضرورة المحلة، في حقيقتها، وهمًا يُسوَّق لنا باسم “الاستقرار”، فيما هو لا يُنتج إلا مزيدًا من الخراب والدمار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى