نبض المجتمع
طه هارون حامد … يكتب
التأثير الثقافي والاجتماعي للاستكبار والحسد في الدول الأقل نمواً:
التأثير الثقافي والاجتماعي للاستكبار والحسد في دول العالم الثالث
في خضم التحديات التي تواجه دول العالم الثالث أو البلدان الأقل نمواً، تتنوع الأسباب والعوامل التي تسهم في إضعاف التنمية الشاملة وتعطيل التقدم الاجتماعي والثقافي. من بين هذه العوامل، يبرز الاستكبار والحسد كقوتين خفيتين تؤثران بعمق في بنية المجتمعات وتوجهاتها النفسية والسلوكية. وبينما غالبًا ما يتم التركيز على العوامل الاقتصادية والسياسية، يغفل الكثيرون التأثيرات النفسية والاجتماعية التي تُغرس في الثقافة المحلية، وتصبح جزءاً من نسيج الحياة اليومية، ما يجعل من الضروري تناول هذه الظواهر بعين ناقدة وتحليل علمي.
أولاً:
تعريف الظاهرتين – الاستكبار والحسد
الاستكبار هو شعور داخلي بالتفوق والعلو، غالباً ما يُترجم إلى سلوكيات تنطوي على التقليل من شأن الآخرين، ورفض الاعتراف بمزاياهم أو إنجازاتهم. في سياقات الدول الأقل نمواً، قد يأخذ الاستكبار شكلاً طبقياً أو سياسياً، حيث تتصرف النخب – الاقتصادية أو السياسية – من منطلق الهيمنة لا من منطلق القيادة الحقيقية.
الحسد، من جهته، هو شعور بالتذمر أو الألم من رؤية نجاح الآخرين، لا سيما إذا كان هذا النجاح يُسلط الضوء على فشل أو ضعف ذاتي. في المجتمعات التي تعاني من محدودية الفرص وغياب العدالة الاجتماعية، يتحول الحسد من شعور شخصي إلى نمط اجتماعي يتخلل التفاعلات اليومية.
ثانياً: الجذور الثقافية والاجتماعية للاستكبار والحسد
ترتبط هاتان الظاهرتان بمنظومة القيم والتنشئة الاجتماعية السائدة في المجتمعات الأقل نمواً، حيث تسهم عدة عوامل في تغذيتهما
الحرمان البنيوي وعدم تكافؤ الفرص: عندما يشعر الأفراد أن الموارد والفرص تُمنح بناءً على المحسوبية لا الكفاءة، يترسخ الحسد كنتيجة طبيعية للشعور بالظلم. كما تتولد مشاعر الاستكبار لدى من ينعم بهذه الامتيازات على حساب الآخرين.
ضعف المؤسسات التعليمية والتربوية: في ظل نظم تعليمية تقليدية تفتقر إلى تنمية التفكير النقدي، لا يتم غرس قيم التواضع أو المسؤولية الاجتماعية، بل يُعزز التفوق الفردي بمعزل عن الأثر الجماعي.
الخطاب الديني أو الثقافي المُسيّس: في بعض الأحيان، يُستغل الدين أو التقاليد لتبرير الفوارق الطبقية أو تعزيز الشعور بالاستحقاق الزائف، ما يزيد من ترسيخ الاستكبار والحسد كمفاهيم مقبولة ضمنيًا.
ثالثاً: التأثيرات الاجتماعية للاستكبار والحسد
1. تفكك الروابط الاجتماعية
الحسد يقوض الثقة الاجتماعية ويزيد من حدة النزاعات بين الأفراد والمجتمعات. فبدلاً من أن يُلهم نجاح الآخرين الطموح والعمل، يتحول إلى مصدر إرباك وخصام. أما الاستكبار، فيؤدي إلى تكريس الفجوات بين الطبقات، ويعزز الشعور بالاغتراب لدى الفئات المهمشة.
٢. ضعف روح المبادرة
في بيئة يسودها الحسد والاستكبار، تصبح روح التعاون شبه معدومة، ويخشى المبدعون من النجاح خوفاً من نظرة المجتمع أو محاولات الإقصاء. كما أن أصحاب النفوذ – بدافع الاستكبار – قد يقفون عائقاً أمام أي محاولة للتغيير من خارج دوائرهم.
٣. تشويه منظومة القيم
حين يُحتفى بالسلطة والاستعراض أكثر من الإنجاز الحقيقي، تُشوّه معايير التقدير المجتمعي. يصبح “من تملك” هو من يُحترم، لا “من يخدم” أو “يُبدع”، ما يكرّس ثقافة سطحية وقصيرة النظر.
رابعاً: التأثيرات الثقافية العميقة
1. إعادة إنتاج الاستكبار كجزء من الهوية الوطنية أو الدينية
في بعض الحالات، يتخذ الاستكبار طابعاً جماعياً، حيث ترى بعض الشعوب أو المجموعات العرقية نفسها أرقى من غيرها، حتى ضمن نفس الدولة. وهذا يعمّق الانقسامات الداخلية، ويحول دون بناء هوية وطنية جامعة.
٢. انتقال الحسد إلى الأدب والفنون
في كثير من المجتمعات، ينعكس الحسد في الإنتاج الثقافي، من خلال روايات أو أعمال درامية تُظهر الناجحين كمستغلين أو فاسدين، ما يغرس في الأذهان صورة مشوشة عن العلاقة بين النجاح والأخلاق.
خامساً: كيف يمكن مواجهة هذه الظواهر؟
1. إصلاح التعليم والإعلام
نشر ثقافة التواضع والتقدير المتبادل يبدأ من المدرسة ووسائل الإعلام، من خلال تسليط الضوء على قصص النجاح الجماعي، وتشجيع روح التعاون لا التنافس المَرَضي.
٢ . بناء مؤسسات شفافة
كلما كانت المؤسسات عادلة وشفافة، قلّ الشعور بالحسد لدى المحرومين، وضعُف الاستكبار لدى أصحاب النفوذ. الشفافية تخلق شعورًا بالإنصاف، وتعيد تعريف النجاح كاستحقاق لا كامتياز.
٣. تشجيع النقد الذاتي والمساءلة المجتمعية
يجب أن تكون هناك منصات تتيح للمجتمعات محاسبة نفسها، ونقد أنماطها الثقافية، دون خوف أو تبرير.
في النهاية
الاستكبار والحسد ليسا مجرد مشاعر فردية، بل يمثلان أعراضاً ثقافية واجتماعية متجذرة في البنية العميقة للمجتمعات الأقل نمواً. وإذا ما أُريد لهذه البلدان أن تنهض بحق، فلابد من مواجهة هذه الظواهر ليس فقط من خلال السياسات العامة، بل عبر ثورة فكرية وأخلاقية شاملة تعيد ترتيب سلم القيم، وتحرر المجتمعات من قيود المقارنة والهوس بالمظاهر. فالتنمية لا تكون مكتملة إلا حين يتحرر العقل من أنماط التفكير المعيقة، وينبثق التعاون من رحم التواضع والإيمان بالآخر.