أعمدة الرأي

عين على الحقيقة

الجميل الفاضل

الجميل الفاضل … يكتب
في لحظة “النور المظلم”، قد يشبه الكذب الحقيقة؟!

يقول الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي: إن الأزمة هي هذه اللحظة التي يندثر فيها العالَم القديم، في حين يتأخر العالَم الجديد في ظهوره.
ويصف غرامشي هذه اللحظة الإنتقالية بأنها لحظة “النور المظلم”، إذ كما قال: ما بين العتمة والضوء تولد الوحوش، لتقع العديد من الأخطاء والعذابات.
هي وحوش تصنع عذابات يومية، تضعك تحت رحمة بشر عادي جدا لا يفوقك في شيء، بامكانه أن يمنح ذاته تفويضا يخول له أن يجري سكينه وفق هواه ومزاجه الخاص علي رقبتك، فيجز عنقك، ليعبث بجمجمتك، يحركها باسما يلوح بها مزهوا في الهواء، ممسكا بشعيرات من ناصية رأسك المبتور مقبضا، أو آخرا يطأ بحذائه العسكري الثقيل عظام دماغك النخرات، أو مجندا غيره يسلي صغيره بجمجمة رأسك كلعبة أطفال.
إنها ملهاة يظن هؤلاء العابثون أنها تقربهم زلفي الي الله الذي خلقك، ليسلبك من هو دونه روحك، فرحا بإنجازه الباهر هذا، وسط تكبيرات وتهليلات وحوش آدميين آخرين مثله، لا يجدون هم كذلك ضيرا في قطع رقاب آخرين مثلك.
فعندما تحاصرك مهددات مثل هذه، قادرة علي أن تلغي وتسقط في أي لحظة، وجودك برمته من خارطة الحياة، مهددات من شأنها أن تغمطك حقك الاساسي في مزاولة العيش كسائر الكائنات التي تحيا علي ظهر هذا الكوكب، فضلا عن أنها مهددات تبلغ درجة أن تلغي وجودك وأن تشطب حقك في البقاء علي قيد الحياة بجرة سكين جائرة، لا بجرة قلم يتوخي العدل والإنصاف فيك.
وللحقيقة فان وحشا صغيرا ظل ينمو مع هذه الحرب باضطراد مذهل، داخل كل منا دون أن نشعر به، لكنه وحش في ظني سيأكلنا نحن أول ما يكل، ساعة أن يقوي وأن يكبر.
هو وحش مفترس يصنع تصوراته الخاصة حول المسافة بينك وبين ما عداك، هو هكذا يجعلك تري الدنيا ملونة بعينيه، لا كما هي علي طبيعتها في الواقع، يزج بك الي منطقة سوء الظن العريض، يقوي هواجس خوفك من كل آخر ومن نواياه تجاهك.
يضعك في حالة تربص دائم وفق قاعدة “تربصوا فإنا متربصون”.
ليصبح إضمار الشرور المتبادل هو السائد، في حين يتقاصر ويتراجع لينحسر إحسان الظن بالناس، ومن ثم إحسان النوايا تجاههم.
علي أية حال فالمثقفون كما يقول “فلاديمير لينين”: هم أكثر الناس قدرة علي الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة علي تبريرها.
وقد قيل أيضا: “سيفعل السياسي أي شيء للحفاظ على وظيفته، حتى لو اضطر لأن يصبح وطنياً”.
هكذا يبرر المثقفون الخونة خيانتهم ببراعة، ويصور الساسة الأنانيون أنفسهم كوطنيين نبلاء.
ليصبح السودان أكبر مسرح للتلفيق وللكذب، ولتبادل السرديات الزائفة المضللة المصنوعة بعناية فائقة.
المدهش هو ان غول هذا الكذب، قد بات يلتهم كافة العقول، كقطع الحلوي الصغيرة سريعة الذوبان.
اذ أضحي الجميع وبلا استثناء، قابلا لتصديق أي رواية للحرب تتماشي مع رغائبه، ولا تصادم مشاعره فقط، لاتساقها مع مصالحه الذاتية الضيقة في نهاية الأمر.
لقد صرنا الي حال هو أقرب لما قال به الروائي واسيني الأعرج: “الكذب في بلادنا ليس استثناء، لكنه من فرط التكرار صار يشبه الحقيقة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى