أعمدة الرأي

عين على الحقيقة

الجميل الفاضل
الجميل الفاضل …يكتب
حالة “اللامعيارية” (3)

يبدو أن جهازا للطرد المركزي يعمل الآن بعنفوان وقوة علي مخض “الخام السوداني”، لفرز مزيج النيل، عن حبيبات رمال الصحراء، وعن ما تبقي من تربة أطيان الغابة، مثل هذا الفرز الدقيق لن يتوقف لطالما أنه قد بدأ بالفعل.
بل سيكون هذا الفرز مستمرا الي أبعد من مجرد، فرز كل بيض عن كل حميض، وفق وصف قائد الدعم السريع للحال داخل منظومته أو خارجها، لست أعلم.
لكن الذي أعلمه هو أن هناك ميكانزمات داخلية للفرز ستمضي بلا توقف نحو فرز كل بيض عن بيض أيضا، وكل حميض عن حميض كذلك، والي ما لا نهاية، سوي نهاية هذه الحرب.
وهنا يخامرني سؤال: تري هل كنا بحاجة لهذه الحرب، التي بات شأنها معنا كشأن دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان، لكي تخر كل تصوراتنا الكذوبة عن أنفسنا علي الأرض.
بمثلما سأل الشاعر محمود درويش نفسه يوما:
“هل كان علينا أن نسقط
من عُلُوّ شاهق،
ونرى دمنا على أيدينا
لنُدْرك أننا لسنا ملائكة
كما كنا نظن؟.
ثم معترفا يقول: “كم كَذَبنا حين قلنا: نحن إستثناء”.
قبل أن يمضي الي سؤال مقلق آخر:
“وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟”.
ثم أردف مستخلصا: “أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك”.
مضيفا أن:
“الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث.
ما نخترع
لا ما نتذكر.
الهوية هي فَسادُ المرآة
التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة”.
وفي هذه الصورة التي لا تعجب، ثمة أناس لا ينظرون وراءهم، ومن ورائهم سيأتي لا محالة برابرة آخرون.
إنها أسئلة تتري أوجز الرد عليها الباحث مختار خواجة في مقال بعنوان “إستعادة الأخلاق السودانية”، فالأزمة السودانية المتطاولة ما هي في حقيقتها سوي أزمة اخلاق ظلت تتفاقم حينا بعد حين، كان قد أشار لها الأستاذ محمود محمد طه قبل عقود من السنوات قائلا:
“إن أزمتنا هي في كلمتين: أزمة أخلاق، وإنني علي يقين بأنه لن يستقيم لنا أمر من أمورنا السياسية، ولا الإقتصادية، ما لم نجد العلاج الشافي لهذه الأزمة الأخلاقية”.
وفي سياق ذا صلة بالراهن مضي الكاتب فتحي الضو الي القول: “لقد قادني حدسي منذ وقت مبكر في تسمية الصراع الذي افتعله “الإخوان المسلمين” في السودان بمسمياته الحقيقية، باعتباره صراعاً أخلاقياً، وليس سياسياً، كما كان البعض يتصوره غفلة”.
المهم فقد شرح الكاتب “خواجة” حال سودان ما بعد الحرب بقوله:
“الأزمة السودانية الراهنة كشفت عن ثغرات كثيرة في بنية السلوك والأخلاق السودانية.
والحقيقة أن الإنسان السوداني لم يعش محنة حقيقية شاملة، ولم تشهد الخرطوم كارثة جماعية بهذا المستوى منذ قرن ونصف.
فأول ملمح للأزمة هو أن حشودا كبيرة تمارس ممارسات لا أخلاقية، تنهب وتسرق، متصورة أن هذا شيء مشروع ومقنن.
وثاني ملامح الأزمة هو أنه، وبعد الأيام الأولى للأزمة، وسريان روح التكاتف الجماعي بين الأفراد، فإن المجتمع ظهرت فيه نوابت سوء، لا يمكن إنكارها، فتجار الأزمات في كثير من المناطق قد تصرفوا بطريقة مخيفة لا تليق، مع انهيار النظام الاقتصادي.
ثم أشار خواجة الي أن الاكتفاء بالتمدح بالأخلاق التقليدية السودانية لا يكفي للحفاظ عليها في مواجهة التحديات والعقبات المختلفة، حيث لم يعد هذا التمدح مجديا. مشيرا إلي أن الأخلاق التقليدية السودانية، أخلاق الجماعة والقبيلة والتربية الريفية، هي بحاجة لقيم وسيطة فلسفيا، وبرامج تطبيقية واضحة لتفعيلها في البيئة الحضرية.
مردفا بالقول: أنه لابد في الوقت ذاته البعد عن الاقتصار على الحلول الإسعافية التي لا تنتج سوى أفكار مأزومة.
وفيما يتعلق بتجارب الحروب لدى الآخرين، قال: إن الملاحظ أن الناس تبدأ بالهرب تلقائيا مما يفترض أنه عامل الأزمة الرئيسي، علما بأن أي محاولة لإقصاء هذا العامل ستؤدي للتشوه في المقابل، فالجريمة ليست الانتماء للقبيلة أو للطائفة أو للإقليم، لكن الجريمة تبدأ من التصوير المبتور للتاريخ، أو التشخيص الموتور للواقع، وحينها فإن المؤسسات الاجتماعية تدفع الثمن، وتصبح أدوات بيد الأفراد أصحاب المصلحة، وليس أصحاب الأهداف النبيلة.
قائلا في الختام: إن هذه الحرب فرصة السودانيين في القرن الـ21 لصياغة مستقبلهم لبقية القرن، ومحاولة بناء السلام، واستدامته، وإلا فإن الأزمة المقبلة لن تبقي ولن تذر كما فعل الإعصار بآل بوينديو في “مائة عام من العزلة”.
-ونواصل-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى