شئ للوطن
م.صلاح غريبة … يكتب
هدنة الفاشر: بارقة أمل نحو السلام والاستقرار.
تتجه الأنظار اليوم نحو مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور بالسودان، حيث أُعلنت هدنة طال انتظارها، لتُشكل بارقة أمل حقيقية في سماءٍ ملبدةٍ بالصراعات والدمار. هذه الخطوة الإنسانية، التي جاءت بعد فترات عصيبة من الحصار والمعاناة، تُعد بمثابة نقطة تحول بالغة الأهمية نحو تحقيق السلام والاستقرار الذي طالما حرمت منه هذه المدينة المنكوبة.
لقد عانت الفاشر على مدار سنوات طويلة من ويلات الحرب، وشهدت نزوحًا هائلاً، ودمارًا واسع النطاق طال البنى التحتية والممتلكات. كانت الحياة فيها رهينة للخوف والقلق، وكانت الآمال في مستقبل أفضل تتلاشى يومًا بعد يوم. لكن إعلان هذه الهدنة يعكس رغبة صادقة من المجتمع الدولي والأطراف المعنية في إنهاء هذا النزيف، وفتح آفاق جديدة للتعاون البناء بين جميع الفئات السودانية. إنها فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة، وتضميد الجراح، وبناء مستقبل قائم على التعايش السلمي والاحترام المتبادل.
لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذه الهدنة من الناحية الإنسانية. فبفضلها، ستتمكن قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المحتاجين، وسيحصل المدنيون على فرصة لالتقاط الأنفاس، وستعود بعض مظاهر الحياة الطبيعية تدريجيًا. إنها خطوة أولى وحاسمة نحو تخفيف المعاناة الإنسانية الهائلة التي يعيشها سكان الفاشر، وتمهيد الطريق لعودة النازحين إلى ديارهم بأمان وكرامة.
في خضم هذه التطورات الإيجابية، يقع على عاتق الإعلام مسؤولية جسيمة وحاسمة. فبعيدًا عن مجرد نقل الأخبار، يجب على وسائل الإعلام بذل جهود مضاعفة لدعم هذه المبادرة الإنسانية، والعمل على تعزيز الأمن والطمأنينة في الفاشر. إن دور الإعلام يتجاوز مجرد التغطية الخبرية ليشمل نشر الوعي بأهمية الهدنة، فيجب على الإعلام تسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية للهدنة، وشرح أهميتها في إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة، وتشجيع جميع الأطراف على الالتزام بها.
بناء الثقة والتفاؤل من خلال القصص الإيجابية، والمقابلات مع السكان، وتوثيق جهود إعادة الإعمار، يمكن للإعلام أن يساهم في بناء الثقة والتفاؤل بين أبناء الفاشر، وتعزيز شعورهم بالأمل في مستقبل أفضل، ومكافحة الشائعات والمعلومات المضللة، ففي أوقات النزاع، تنتشر الشائعات التي قد تقوض جهود السلام. على الإعلام أن يكون مصدرًا موثوقًا للمعلومات، وأن يكافح الأخبار المضللة التي قد تهدد استقرار الهدنة.
تسليط الضوء على الانتهاكات (إن وجدت) مع ضرورة دعم الهدنة، يجب على الإعلام أيضًا أن يكون عينًا ساهرة على أي انتهاكات قد تحدث، وأن ينقلها بمهنية ومسؤولية لضمان المساءلة وحماية المدنيين، وتشجيع الحوار والمصالحة فيمكن للإعلام أن يوفر منصات للحوار بين مختلف مكونات المجتمع، وتشجيع مبادرات المصالحة المحلية التي تهدف إلى رأب الصدع وبناء جسور التواصل.
إن هدنة الفاشر ليست مجرد وقف لإطلاق النار، بل هي فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، ولبناء مستقبل قائم على أسس السلام والتنمية. يتطلب نجاح هذه الهدنة تضافر جهود الجميع، من الفاعلين المحليين والدوليين إلى الإعلام والمجتمع المدني. لنعمل معًا، كل من موقعه، لضمان أن تكون هذه الهدنة هي بداية النهاية لمعاناة الفاشر، وبداية عهد جديد من السلام والازدهار لهذه المدينة الصامدة.
بالتأكيد، إن تثبيت الهدنة في الفاشر، على أهميتها البالغة، سيواجه حتمًا تحديات كبيرة، ومنها انعدام الثقة بين الأطراف المتحاربة، فسنوات الصراع الطويلة خلقت جدارًا سميكًا من عدم الثقة بين الفصائل المتحاربة. كل طرف يخشى من نوايا الآخر، وقد يرى الهدنة كفرصة لإعادة التموضع أو التخطيط لهجمات مستقبلية، مما يجعل أي انتهاك بسيط كافيًا لنسفها، والتغلب عليه بآليات مراقبة صارمة وشفافة، فيجب أن تكون هناك لجان مراقبة مستقلة ومحايدة، ربما بمشاركة دولية، لتوثيق أي انتهاكات والإبلاغ عنها فورًا. هذا يضمن المساءلة ويقلل من فرص التشكيك.
بناء الثقة تدريجيًا، والبدء ببرامج “سلام من الأسفل” (Track II diplomacy) التي تجمع قادة المجتمع المحلي والشخصيات المؤثرة من الجانبين لتبادل وجهات النظر وتحديد المصالح المشتركة، وضمانات أمنية متبادلة بالعمل على توفير ضمانات أمنية لكل طرف، ربما من خلال نشر قوات محايدة أو آليات فصل القوات تضمن عدم تعرض أي طرف لهجوم مفاجئ.
قد يكون هناك لاعبين إقليميين أو دوليون لهم مصالح في استمرار الصراع، أو لديهم علاقات مع أطراف داخلية معينة. هؤلاء قد يسعون لتقويض الهدنة لدعم أجنداتهم الخاصة، والتغلب على هذا التحدي بدبلوماسية إقليمية ودولية مكثفة، فيجب على المجتمع الدولي بذل جهود دبلوماسية قوية للضغط على جميع الأطراف الخارجية لوقف أي دعم للجهات التي تسعى لعرقلة السلام، بجانب وحدة الموقف الدولي وتوحيد صفوف القوى الكبرى والإقليمية حول دعم الهدنة وعدم السماح لأي طرف تقويضها.
سكان الفاشر يعانون من نقص حاد في الغذاء، والماء، والدواء، والمأوى. إذا لم تُترجم الهدنة بسرعة إلى تحسين ملموس في أوضاعهم المعيشية، فقد يفقد الناس الأمل ويشعرون بأن الهدنة لا جدوى منها، مما قد يؤدي إلى اضطرابات أو ضغط على الأطراف لإعادة القتال، وتأزم الوضع الإنساني المتدهور و حاجة الناس الملحة، ويمكن التغلب عليه بتسريع وصول المساعدات الإنسانية: يجب أن تكون الأولوية القصوى لضمان وصول المساعدات بكميات كافية وسرعة إلى جميع المحتاجين في الفاشر والمناطق المحيطة بها، بجانب إعادة تأهيل الخدمات الأساسية، بالبدء الفوري بإصلاح وتأهيل البنية التحتية للماء والكهرباء والصرف الصحي والمرافق الصحية، وتوفير فرص عمل سريعة ودعم المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر وتوفير فرص عمل مؤقتة لتخفيف الضغط الاقتصادي على الأسر.
قد توجد مجموعات مسلحة صغيرة أو أفراد غير منضبطة وخارجة عن السيطرة لا يتبعون قيادة مركزية واضحة، وقد يقومون بأعمال تخريبية أو انتهاكات للهدنة لأسباب شخصية أو لعدم فهمهم لأهمية الاتفاق، ويكون التغلب علي هذا التحدي، بوضع خطط واضحة لإعادة الدمج والتسريح (DDR) ووضع برامج شاملة لنزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين في المجتمع، مع توفير بدائل اقتصادية لهم، مع حملات توعية مكثفة وتوعية جميع المقاتلين، حتى الصغار منهم، بأهمية الهدنة وعواقب انتهاكها، وتطبيق نظام عقوبات فعال بوجود آليات واضحة للتعامل مع أي انتهاكات فردية أو جماعية، تشمل عقوبات رادعة لضمان الالتزام.
قد تكون بعض الطرق المؤدية إلى الفاشر أو المناطق داخلها غير آمنة بسبب الألغام الأرضية أو الأجسام المتفجرة غير المنفجرة (ERW)، مما يعيق حركة المساعدات وعودة النازحين، ويمكن التغلب عليها بجهود إزالة الألغام وإعطاء الأولوية لفرق إزالة الألغام لتأمين الطرق والمناطق السكنية الحيوية، وتوفير خرائط واضحة ومحدثة للطرق والمناطق الآمنة للتنقل.
تثبيت الهدنة في الفاشر يتطلب التزامًا قويًا من جميع الأطراف الداخلية، ودعمًا دوليًا منسقًا ومستمرًا، واستثمارًا كبيرًا في جهود إعادة الإعمار وبناء السلام.