شئ للوطن
م.صلاح غريبة … يكتب
السودان ومصر: شراكة استراتيجية نحو مستقبل مزدهر
شهدت القاهرة مؤخرًا فعاليات الدورة العاشرة لملتقى “بناة مصر”، الذي لم يكن مجرد تجمع للمتخصصين في مجال التنمية العمرانية، بل كان منصةً لتأكيد عمق الروابط الاستراتيجية بين السودان ومصر، ورسم ملامح شراكة واعدة في إعادة الإعمار والتنمية. لقد عكس الملتقى، وكلمة السفير السوداني عماد الدين مصطفى عدوي بشكل خاص، رؤى متطابقة وطموحات مشتركة تتجاوز حدود الجغرافيا لتصل إلى آفاق التكامل الإقليمي والازدهار المتبادل.
لقد وضع السفير عدوي يده على جوهر الفرصة التاريخية التي يمر بها السودان، مؤكدًا على ضرورة الاستفادة من التجربة المصرية الرائدة في مشروعات البنية التحتية وإنشاء المدن الجديدة. فمصر، بشهادة إنجازاتها المتسارعة في هذا المجال، أصبحت نموذجًا يُحتذى به في التنمية العمرانية، وهو ما يجعلها “الشريك الأجدر والأعرق” للسودان في رحلته نحو إعادة الإعمار وتشكيل حكومة جديدة.
تتعدد محاور هذه الشراكة الاستراتيجية، وتشمل مجالات حيوية تضمن تحقيق أكبر قدر من المنفعة المتبادلة، ومنها تطوير البنية التحتية والمدن الجديدة. إن الإشارة إلى رغبة السودان في الاستفادة من الخبرة المصرية لتنمية ساحل البحر الأحمر السوداني وإعادة إعمار المناطق المتضررة هي حجر الزاوية في هذه الشراكة. فبناء الطرق والموانئ والمطارات وتطوير البنية التحتية الأساسية للمدن يمثل الركيزة لأي نهضة اقتصادية. منطقة سواكن، وجزر سنقنيب، وخليج عروس، تحمل في طياتها إمكانات سياحية واعدة يمكن لمصر أن تسهم بخبرتها في تطويرها، مما يجذب الاستثمارات والشراكات في هذا القطاع.
إنشاء المناطق اللوجستية والمناطق الحرة، فلا شك أن هذه المناطق، وخاصة على الحدود المشتركة، تمثل شريان حياة لتعزيز التجارة الرسمية والتكامل الإقليمي. من خلال تسهيل حركة السلع وتعزيز التبادل التجاري، لن يقتصر النفع على البلدين فحسب، بل سيمتد ليشمل دول الجوار الأفريقية، مما يعزز مكانة المنطقة كمركز اقتصادي حيوي، وتبادل الخبرات والتدريب، فإن سعي السودان لتبادل الخبرات لتحقيق الأهداف المشتركة يفتح الباب أمام برامج تدريبية وورش عمل متخصصة في التخطيط العمراني وإدارة المشاريع وتطوير البنية التحتية. هذا التبادل المعرفي سيسهم في بناء قدرات الكوادر في كلا البلدين، مما يضمن استدامة مشاريع التنمية ونجاحها.
مع تعزيز البنية التحتية وإنشاء المناطق اللوجستية، ستزداد فرص التكامل الاقتصادي والتجاري بين البلدين بشكل ملحوظ. سيؤدي هذا إلى زيادة حجم التجارة والاستثمارات المتبادلة، وفتح أسواق جديدة للمنتجات والخدمات من كلا الجانبين، مما يعود بالنفع على اقتصاد البلدين، وتنمية المدن الساحلية المستدامة، فيمتلك السودان سواحل غنية وفرصًا استثمارية وسياحية. إن الشراكة مع مصر، التي تتمتع بخبرة واسعة في بناء مدن مستدامة، يمكن أن تحول هذه المدن الساحلية إلى مراكز اقتصادية حيوية، خاصة وأنها قد تخدم دولاً أفريقية غير ساحلية، مما يعزز الدور الإقليمي للسودان.
إن تطابق الرؤى بين السودان ومصر، لا سيما فيما يتعلق بتعزيز العلاقات العربية الأفريقية، يعكس فهمًا عميقًا للتحديات والفرص المشتركة. لقد أشار السفير عدوي بتقدير إلى الدور الريادي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ملف إعادة الإعمار في القارة الأفريقية، وجهود الحكومة المصرية بقيادة رئيس مجلس الوزراء في إحداث تنمية عمرانية واسعة النطاق، انطلاقًا من رؤية مصر 2030. هذا التقدير يؤكد على الثقة المتبادلة والإيمان بقدرة مصر على تقديم الدعم والخبرة اللازمين للسودان في هذه المرحلة الحرجة.
في جوهرها، تهدف هذه الشراكة إلى تسخير الخبرات المصرية في التنمية العمرانية وإعادة الإعمار لدعم السودان في مرحلته الجديدة. إنها شراكة بناءة تعود بالمنفعة المتبادلة، وتعزز الاستقرار والنمو الاقتصادي في المنطقة، وتفتح آفاقًا واسعة لمستقبل مزدهر لكلا البلدين الشقيقين.
لا تخلو أي شراكة استراتيجية، مهما كانت واعدة، من التحديات. وبالنظر إلى عمق وطموح الشراكة بين السودان ومصر في إعادة الإعمار والتنمية، فمن الضروري استباق هذه التحديات ووضع آليات للتغلب عليها لضمان استمرارية ونجاح هذا التحالف، ومن أبرز التحديات المحتملة، فعلى الرغم من الحديث عن “التطورات الإيجابية وبدء مرحلة إعادة الإعمار” في السودان، فإن التحديات السياسية والأمنية الداخلية، بما في ذلك بناء حكومة مستقرة وتحقيق السلام الشامل، قد تؤثر على مناخ الاستثمار وقدرة الشركات المصرية على العمل بفاعلية وأمان، ويتطلب ذلك دعمًا إقليميًا ودوليًا مستمرًا جهود بناء السلام والاستقرار في السودان. يجب على مصر، كشريك استراتيجي، مواصلة دعم المساعي الدبلوماسية لتعزيز الاستقرار، والتركيز على المشاريع ذات الأثر السريع التي تظهر فوائد ملموسة للمواطن السوداني، مما يعزز الثقة في العملية الانتقالية. يمكن أيضًا إنشاء آليات مشتركة لتقييم المخاطر الأمنية وتوفير الحماية اللازمة للمشاريع والفرق العاملة.
تتطلب مشاريع البنية التحتية الكبرى وإعادة الإعمار تمويل واستثمارات ضخمة. قد يواجه السودان تحديات في توفير التمويل اللازم، كما قد تواجه الشركات المصرية عوائق تتعلق بضمانات الاستثمار أو تحويل الأرباح، فيجب على البلدين البحث عن مصادر تمويل مبتكرة، مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، وجذب المؤسسات المالية الدولية والإقليمية (مثل البنك الأفريقي للتنمية، البنك الإسلامي للتنمية) كشركاء في التمويل. يمكن لمصر، بخبرتها في جذب الاستثمارات، مساعدة السودان في صياغة حزم استثمارية جذابة وتقديم حوافز للشركات المصرية والدولية. إنشاء صندوق استثماري مشترك أو تسهيل خطوط ائتمانية بين بنوك البلدين قد يكون له دور فعال.
قد تعيق الإجراءات البيروقراطية والاجرائية المعقدة في أي من البلدين، أو عدم التنسيق الكافي بين الهيئات الحكومية، تنفيذ المشاريع المشتركة بفاعلية، وهنا يكون الحل بإنشاء لجنة عليا مشتركة دائمة تضم ممثلين رفيعي المستوى من الوزارات والهيئات المعنية في كلا البلدين. تكون مهمة هذه اللجنة تبسيط الإجراءات، وتذليل العقبات، ووضع إطار زمني واضح للمشاريع، بالإضافة إلى آلية سريعة لحل النزاعات. كما يمكن الاستفادة من التجربة المصرية في إنشاء “مراكز خدمة المستثمرين” لتسريع الإجراءات.
على الرغم من رغبة السودان في تبادل الخبرات، قد يكون هناك نقص في بعض الخبرات والكفاءات الفنية والتقنية اللازمة لاستيعاب ونقل الخبرات المصرية أو إدارة المشاريع الكبرى، ويجب أن تتضمن الشراكة برامج مكثفة لبناء القدرات والتدريب المهني والفني للكوادر السودانية في مجالات مثل التخطيط العمراني، وإدارة المشاريع، والهندسة، والتشغيل والصيانة. يمكن لمصر فتح أبواب الجامعات والمعاهد الفنية والشركات المصرية أمام الطلاب والمهندسين السودانيين لتبادل الخبرات والتدريب العملي.
المنطقة عرضة لآثار التغيرات المناخية مثل الفيضانات والسيول والجفاف، مما قد يؤثر على استدامة المشاريع الإنشائية والبنية التحتية، فيجب أن تعتمد المشاريع المشتركة معايير التصميم المقاومة للتغيرات المناخية وتقنيات البناء المستدام. تبادل الخبرات في إدارة المياه، والتخطيط الحضري المرن، واستخدام المواد الصديقة للبيئة سيكون حاسمًا لضمان استمرارية هذه المشاريع على المدى الطويل.
المواجهة الاستباقية لهذه التحديات ووضع حلول عملية ومستدامة، يمكن لمصر والسودان تعزيز هذه الشراكة الاستراتيجية وتحقيق أقصى استفادة منها، مما يضع أسسًا قوية لنهضة تنموية شاملة في البلدين والمنطقة ككل.
Ghariba2013@gmail.com