التصريحات التي تفضح النظام: حكومة المحسوبية والانهيار المُعلَن”
سنية اشقر… تكتب
من النادر أن تشهد دولة في حالة حرب وخراب مثل السودان هذا الكم من التصريحات المتناقضة والفاضحة الصادرة من قلب السلطة. ما قاله وزير المالية جبريل إبراهيم، ورد عليه كيكل، وما أعلنه مالك عقار عن فساد الوزراء، وأخيراً حديث البرهان عن التعيينات بالمحسوبية، ليس مجرد ترف سياسي أو تنفيس إعلامي؛ بل هو اعتراف علني بانهيار أخلاقي ومؤسسي كامل للدولة.
جبريل إبراهيم، الذي يتولى حقيبة من أهم وزارات الدولة في لحظة كارثية، يخرج ليبرر أنه لم يُعيّن أحداً من أقربائه. هل وصلنا إلى هذه الدرجة من الانحدار حتى تصبح التبرئة من المحسوبية فضيلة؟! وهل نسي جبريل أن الشعب لم يفوضه ليكافئ أسرته، بل ليدير أموال الدولة في ظروف استثنائية، والنتيجة: تضخم، انعدام خدمات، وانهيار كامل في منظومة المرتبات والدعم؟
أما كيكل، الذي يبدو كمن “رفع الغطاء” فاتهامه لجبريل بالكذب يضعنا أمام مشهد أكثر بشاعة: حكومة تُكذّب نفسها، ووزراء يتبادلون الطعنات على الهواء مباشرة، لا داخل قنوات المساءلة أو المحاكم، بل أمام جمهور أنهكته الحرب والجوع.
مالك عقار لم يكن أكثر لطفاً، بل تحدث بصراحة عن فساد وسط الوزراء. هذا ليس تحليلاً من ناشط مدني أو تقريراً من جهة رقابية، بل كلام يصدر من الرجل الثاني في مجلس السيادة. لكن ماذا بعد؟ لا إقالات، لا تحقيقات، لا محاكمات. مجرد “تحلل شفهي” من المسؤولية.
ثم يأتي عبد الفتاح البرهان، رأس الدولة، ليؤكد وجود تعيينات بالمحسوبية. البرهان، الذي يرفع راية “تحرير الوطن”، يبدو كمن يقاتل من أجل دولة منهارة إدارياً وأخلاقياً من الداخل. وإن كان يعلم بوجود هذه التجاوزات، فأين قراراته؟ أين الضبط والربط؟ أم أن “المجموعة” الحاكمة مشغولة بتقاسم الغنائم أكثر من اهتمامها بإنقاذ الدولة؟
هذه ليست تصريحات تعكس شفافية، بل هي علامات صريحة على احتضار الدولة وسقوطها. هي النار التي بدأت تشتعل تحت الرماد. تصريحات لا تُحسب في ميزان الإصلاح، بل تُدرج في خانة الفشل المُعلن، والخيانة الوظيفية لمهام الدولة والتهرب من المسؤولية. وفي المقابل، لا يمكن تجاهل موقف المدنيين الذين يرفضون العودة إلى المناطق التي يزعم الجيش تحريرها. كيف يعود الناس دون أمن، دون خدمات، ودون ثقة؟ هل يُعقل أن يعيش المواطن في ظل حكومة تعترف بأنها لا تستطيع حتى ضبط تعيين موظفيها؟ هذه الحكومة، بمكونيها المدني والعسكري، فقدت كل مقومات الشرعية الأخلاقية والإدارية. لم تعد أزمة السودان محصورة في الحرب فقط، بل في طبيعة من يحكمون. وإذا كانت هذه التصريحات مقدمات لمرحلة جديدة، فإن القادم سوف يكون أخطر مما نتصور، ما لم يتحرك الرأي العام ليفرض مساراً آخر، يقوم على المحاسبة، لا المحاباة، وعلى نهوض حقيقي للوطن، لا الإنكار المستمر.
إلى القوى المدنية والسياسية
إن ما كشفته هذه التصريحات، من فساد ومحسوبية وتبادل اتهامات داخل الحكومة، لا يمكن أن يُمرر كأزمة تخص “العسكر” وحدهم أو “الإسلاميين” فقط. فعلا هم يتحملون القسط الاكبر من المسؤولية، رغم ذلك فأن الجميع عليه أن يتحمل قسطاً من المسؤولية عن هذا الفراغ الوطني. الصمت، أو الاكتفاء بالبيانات المترددة، لم يعد مقبولاً. علي كل قوي الثورة والتغيير والاجسام المدنية والسياسية والنقابات المهنية، وتنسيقيات المقاومة، أوقفوا خطابات الانتظار والمجاملات. هذه حكومة تُعترف من داخلها بالفساد، وهي على مشارف السقوط الداوي، الأخلاقي والإداري والسياسي. السكوت عنها خيانة لقيم الثورة ودماء شهداء الحرية والسلام والعدالة.
أنتم اليوم جميعكم مطالبون أمام الشعب السوداني بخطاب سياسي موحّد، صارم، شجاع لا يساوم في المبادئ، ولا يختبئ خلف تعقيدات الحرب. يجب الإعلان عن مشروع وطني واضح المعالم، لا يكتفي بالتشخيص فقط، بل يقدم بدائل حقيقية ويستنهض الجماهير حول برنامج وطني للخلاص.
وإلا، فإن التاريخ سيكتب أنكم غبتم عن أخطر لحظة في عمر الدولة، لحظة كان يمكن فيها، بكلمة صادقة وموقف شجاع، أن تنقذوا السودان من حافة الانهيار التام.
سنية اشقر
٢/مايو/٢٠٢٥م